الرابع عشر من مارس، تاريخٌ يحفظه الصهاينة جيداً، لأنه يحمل معه ذكرى تحطيم نظرية أمنهم على صخرة أبناء المقاومة الذين مرغوا أنف الحكومة النازية بالتراب وأثبتوا أن كل التحصينات التي يتغنى بها العدو لا تمنع استشهادياً من بلوغ مرامه أو تحقيق هدفه.
ففي تاريخ 14-3-2004 كان ميناء اسدود الصهيوني شديد التحصين على موعد مع استقبال الاستشهاديين البطلين نبيل مسعود ابن كتائب الأقصى و محمود سالم ابن كتائب القسام، و اللذان سطرا أروع ملاحم البطولة عندما فجرا جسديها الطاهرين في جنود و شرطة الاحتلال داخل الميناء و أحالا ليل العدو إلى نهار.
تركوا العدو يتخبط مذعورا لا يدري من أين خرج هذان البطلان، هل أمطرتهما السماء، أم خرجا من باطن الأرض، أم هل شقّا عُباب البحر؟
ما يعرفه الجميع أن البطلين مسعود وسالم نفذا عمليةً استشهاديةً مزدوجة في ميناء اسدود قبل أعوام أوقعت 11 قتيلاً صهيونياً و عشرات الجرحى، و تركت العملية أثراً واضحاً لدى حكومة العدو الذي اتخذ قرارا بعدها باغتيال و تصفية قادة المقاومة.
فعملية اسدود كانت الأولى التي نجح فيها فدائيون في الوصول إلى منطقة استراتيجية في العمق الصهيوني انطلاقا من قطاع غزة.
تطور نوعي
ففي تطور نوعي لقدرات فصائل المقاومة الفلسطينية عامة وكتائب الشهيد عز الدين القسام وكتائب شهداء الأقصى، وجهت هذه الفصائل ضربةً نوعية ضد الكيان ومصالحه الاستراتيجية.
تمكن استشهاديان من كتائب القسام وكتائب الاقصى _ يسكنان مدينة غزة_ من تفجير جسديهما الطاهرين داخل ما يسمى بميناء اسدود داخل أراضينا المحتلة عام 1948 مما أسفر عن مقتل أحد عشر صهيونياً واصابة العشرات، في عملية هي الأولى من نوعها منذ بداية انتفاضة الأقصى المباركة .
فقد أعلنت كل من كتائب الشهيد عز الدين القسام وكتائب شهداء الأقصى مسئوليتهما المشتركة عن العملية الاستشهادية النوعية داخل ما يسمى بميناء اسدود عصر الأحد 14/3/2004م.
وفي بيان عسكري مشترك لهما قالا: "بحمد الله وقوته وتوفيقه تعلن كتائب الشهيد عز الدين القسام وكتائب شهداء الأقصى مسئوليتهما المشتركة عن عملية ميناء أسدود الاستشهادية حيث تقدم اثنان من مجاهدينا تحفّّهما رعاية الرحمن تجاه أرضنا الحبيبة المغتصبة في ميناء اسدود التجاري وبرعاية الله عز وجل نجح المجاهدان في الوصول لهدفهما المحدد و تفجير نفسيهما ليحولا الميناء إلى كتلة من النيران الملتهبة وبهذا تكون أكذوبة الأمن الصهيونية قد سحقت ونسفت معها كل الحواجز الأمنية والجدران الواهية والأسلاك الشائكة تحت أقدام استشهاديينا الأبطال".
فكرة العملية
جاءت فكرة تنفيذ عملية استشهادية في ميناء أسدود المحصن و المعقد من قبل القيادي في كتائب الشهيد عز الدين القسام الشهيد القائد فوزي أبو القرع والشهيد القائد حسن المدهون.
وبعد دراسة جيدة ومعقدة للفكرة تم عرضها على قيادة كتائب القسام والأقصى، جاءت الموافقة على الفكرة الأولى، وهي استهداف الميناء بعملية استشهادية تستخدم فيها المتفجرات و الأحزمة الناسفة.
كانت القيادة تدرك أن هجوماً معقداً كهذا أمر بالغ الصعوبة في ظل الاحتياطات الأمنية الصهيونية البالغة ووجود قطاع غزة تحت حصار خانق براً و بحراً و جواً، و نجاح المهمة كان رسالة لشارون و حكومته مفادها أن فرض الإجراءات الأمنية لا يكفي لجلب الأمن للمغتصبين المحتلين.
بعد الدراسة الكاملة و الوافية للخطة من كافة جوانبها و رسم خارطة مفصلة للميناء بناء على معلومات حصل عليها الجناحان العسكريان بطريقة خاصة، وقعت الموافقة على التنفيذ بسرية تامة، تم تكليف الشهيد فوزي أبو القرع مع قيادي آخر من كتائب القسام والشهيد حسن المدهون و قيادي آخر في كتائب الأقصى بمتابعة العملية والإعداد لها مع توفير كل الإمكانيات المتاحة.
وكانت الوسيلة التي استخدمت في تنفيذ العملية هي حاوية بضائع خاصة تم توفيرها بصعوبة بالغة، بحيث تدخل الميناء الذي يعج بالحاويات التي تفرغ و تحمل البضائع من وإلى قطاع غزة عبر معبر المنطار.
" الغرفة السرية"
في نهاية الحاوية البالغ طولها 12 متراً تم تجهيز غرفةٍ سرية و بدقة متناهية، حيث لم يتجاوز عرض الغرفة 55 سنتمترا، بحيث تم إنشاء جدار قياسي على غرار الجدار الحقيقي في نهاية الحاوية لا يستطيع من يراه أن يميزه.
في داخل الغرفة تم تثبيت مشابك حديدية يتشبث بها الاستشهاديان عند قيام قوات الاحتلال برفع الكونتينر و هزه لتفتيشه في المعبر، بحيث لا يعمل التفتيش و الأرجحة على تحرك ما بداخل الحاوية فتصدر أصوات تكشف أن أمراً ما في الداخل.
على الجوانب الثلاثة للغرفة السرية تم عمل أبواب مموهة جيدا تفتح من الداخل و لا تفتح من الخارج و لم يترك أي فراغ في هذه الأبواب يثير الشك أو الريبة، و حتى يتمكن الاستشهاديان من الخروج من أي الأبواب إذا ما تم حشر الحاوية بين حاويات أخرى في الميناء تغلق المنافذ، بحيث إذا أغلق المنفذ على اليمين مثلا استطاع الاستشهاديان الخروج من الجهة اليسرى و العكس بالعكس، و إذا أغلق المنفذان الأيمن و الأيسر يفتحان الباب الخلفي.
داخل الغرفة السرية تم تجهيز ما يشبه (حمّام الطوارئ) و لوازم أخرى تتحفظ الكتائب عن الإفصاح عنها، كما تم تزويد المنفذين بالمياه المعدنية و التمر، لأن الرحلة ستكون شاقة وطويلة عليهما.
اختيار الاستشهاديين
بعد الفحص الدقيق من قبل القادة أعطيت الإشارة بالانتهاء من إعداد الحاوية والغرفة السرية بطريقة فنية و هندسية متقنة، و بذلك انتهت الخطوة الأولى.
الخطوة الثانية كانت اختيار الاستشهاديين منفذي العملية، فاختارت كتائب القسام الشهيد محمود سالم(18 عاماً)، واختارت كتائب الأقصى نبيل مسعود (17 عاماً) ، وكلاهما من مخيم جباليا للاجئين وتم تدريبهما تدريبا جيدا، و تأقلموا على الغرفة السرية، وتعلموا كيفية تثبيت أنفسهم عند تفتيش الحاوية داخل المعبر، حيث أن الإجراءات في المعبر شديدة الصرامة.
تنفيذ العملية كان يحتاج إلى حزام ناسف وحقيبة متفجرات، وقد استخدم في هجوم اسدود مواد متفجرة جديدة لم تستخدم في أي عملية سابقة.
كما احتاجت المهمة لباساً خاصاً يرتديه الاستشهاديان يتناسب مع طبيعة الهدف و أجهزة خلوية صهيونية "أورانج" للمتابعة و الاتصال مع غرفة العمليات المشتركة.
فجر الرابع عشر من مارس 2004 تمت مراجعة الخطة بشكل نهائي، وتفقد القادة مع الاستشهاديين الغرفة، و صعد نبيل و محمود للغرفة بعد إعطائهم التعليمات بإغلاق وسائل الاتصال التي بحوزتهم حتى دخول الميناء، لتبدأ الرحلة، و يبدأ الترقب من القادة في غرفة العمليات المشتركة و قلوبهم تخفق بالدعاء أن ينجح الله المهمة.
وصول الحاوية
وضع القادة حسابات زمنية بأن الحاوية ستكون في الطرف الصهيوني الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم، ولكن تأخر دخولها إلى الساعة الواحدة بعد الظهر بسبب وجود حاويات كثيرة تحت التفتيش، و مما زاد الطين بلة أن ذلك اليوم كان شديد الحر، فصارت المشقة والتعب مضاعفين على نبيل و محمود.
تم تفتيش الحاوية من قبل قوات الاحتلال، و أعطت وحدة الرصد الأنباء بأن الحاوية قد خرجت من المعبر باتجاه ميناء اسدود، في هذه اللحظات تنفس الجميع الصعداء.
أنا عند أمي
بعد ذلك ساد الهدوء غرفة العمليات المشتركة، فالجميع بانتظار المكالمة الأخيرة من نبيل ومحمود، و عند الساعة الرابعة عصراً اتصل نبيل على القائد حسن المدهون و قال له:" أنا عند أمي" و هي كلمة السر المتفق عليها و التي تعني أن نبيل سيفجر نفسه في الهدف بعد ثوان معدودة، ثم انقطع الاتصال.
نبيل فجر نفسه داخل الميناء، في حين كان محمود في مكان بعيد ينتظر احتشاد جنود و شرطة الاحتلال في المكان ليفجر حقيبته وسطهم، وقد فجر نبيل نفسه على بعد أمتار من مخازن للمواد الكيميائية، الأمر الذي زاد الإرباك في صفوف الصهاينة.
وسائل الإعلام الصهيونية بدأت تتناقل أن انفجاراً مصدره اسطوانة غاز قد وقع في ميناء اسدود، فلم يكن لدى قوات الاحتلال ما يؤكد أن الانفجار نفذه استشهادي بعد تجمع جنود الاحتلال وفي مكان الانفجار الأول خرج عليهم الاستشهادي محمود سالم وفجر نفسه وسطهم، لتسفر العملية عن مقتل 11 صهيونياً و إصابة ثلاثين بعضهم بجراح خطيرة.
تعقيب العدو على العملية
قادة الاحتلال صرحوا في تعقيبهم على العملية بأن كارثة كانت ستحدث في جنوب فلسطين المحتلة لو وقع الانفجار داخل مخازن المواد الكيميائية، واعترفوا أن المقاومة استهدفت منطقة استراتيجية لم تستهدف من قبل.
لم يخطر ببال قادة العدو الوسيلة التي نفذت من خلالها العملية، فتارة قالوا إن المهاجمين وصلا الميناء بواسطة أوراق مزورة، و تارة أخرى قالوا إنهما دخلا عبر نفق من تحت الأرض، و ثالثة خمنوا أنهما وصلاً عن طريق البحر بواسطة زورق أو ضفادع بشرية.
الكاتب الصهيوني في صحيفة يديعوت أحرونوت علق على العملية بالقول:"هذه العملية أثبتت أن لا جدار مهما كان عاليا يمكنه أن يمنع الفلسطينيين من الوصول إلى أهدافهم التي يخططون لها بدقة".