
يصادف اليوم، التاسع من كانون الأول، الذكرى الـــ37 لاندلاع الانتفاضة الأولى "انتفاضة الحجارة"، التي فجرها الشعب الفلسطيني في وجه الاحتلال الإسرائيلي، حيث انتفض الشعب الفلسطيني، في كافة مدن وقرى ومخيمات القطاع والضفة والقدس المحتلة، معلنًا مرحلة جديدة في مواجهة الاحتلال التي سرعان ما هيأت الظروف لميلاد الكفاح المسلح.
من مخيم جباليا في قطاع غزة، كانت الشرارة الأولى، حيث انطلقت انتفاضة الحجارة، عقب استشهاد أربعة عمال على حاجز بيت حانون "إيريز" عام 1987، بعد أن أقدم مستوطن على دهسهم بشاحنته، وهم: الشهيد طالب أبو زيد (46 عاما) من المغازي، والشهيد عصام حمودة (29 عاما) من جباليا البلد، والشهيد شعبان نبهان (26 عاما) من جباليا البلد، والشهيد علي اسماعيل (25 عاما) من المغازي.
في صباح اليوم التالي، عم الغضب مخيم جباليا، وانطلقت المظاهرات العفوية الغاضبة، والتي تحولت إلى مواجهات عنيفة مع قوات الاحتلال، أدت الى استشهاد الشاب حاتم السيسي، ليكون أول شهيد في الانتفاضة.
وسرعان ما فجر هذا الحادث الغضب الكامن في نفوس الفلسطينيين، فتحولت مسيرة تشييع الشهداء إلى مظاهرة غضب واسعة رشق خلالها السكان جنود الاحتلال بالحجارة، والذين ردوا بإطلاق الرصاص وتدخلت مروحيات الاحتلال لتطلق القنابل المسيلة للدموع لتفريق آلاف المشاركين في التشييع، لتسفر تلك الأحداث عن ارتقاء عدد من الشهداء والجرحى، لتمتد الشرارة بعد ذلك إلى كل مخيمات ومدن القطاع ومنها إلى الضفة الغربية، لنصبح أمام انتفاضة شعبية حقيقية حملت الحجر.
متدحرجة من مخيم جباليا، إلى مخيم بلاطة ونابلس، سارت الانتفاضة إلى مجدها وعلوها، فاستشهد في 10 كانون الأول 1987، الفتى إبراهيم العكليك (17 عاما)، ولحقه في 11-12-1987 الشابة سهيلة الكعبي (19 عاما)، والفتى علي مساعد (12 عاما) من مخيم بلاطة، ثم قامت الانتفاضة، واشتعلت وازدهرت بمئات الشهداء، وعشرات آلاف الجرحى والأسرى.
واستمرت الانتفاضة سبع سنوات وهي تدور، في كل بيت، وعائلة، وقلم، ومنبر، وجدار، وشارع، وحارة، وحي، ومدينة، ومخيم، وقرية في الضفة، وغزة، والقدس المحتلة، وأراضي 1948.
وسميت بـ"انتفاضة الحجارة"، لأن الحجارة كانت أداة الهجوم والدفاع التي استخدمها الفلسطينيون ضد قوات الاحتلال.
وفي ذلك الوقت، شكل الشباب الفلسطيني العنصر الأساسي المشارك بالانتفاضة، وقامت بقيادتها وتوجيهها القيادة الوطنية الموحدة للثورة، وهي عبارة عن اتحاد مجموعة من الفصائل السياسية، كانت تهدف بشكل أساسي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي والحصول على الاستقلال.
وكانت أكثر الطرق التي يتم من خلالها التواصل والدعم بين الناس والمقاومين ورجال الانتفاضة، المنشورات والكتابة على الجدران، وكانت توزع المناشير عند مداخل المساجد من قبل أطفال لم تكن أعمارهم تتجاوز السابعة، أو كان يتم إلقاؤها من نوافذ السيارات قبل طلوع الشمس ويتم تمريرها من تحت الأبواب.
ما العوامل التي ساعدت على انطلاق انتفاضة الحجارة؟
جاء اندلاع الانتفاضة في ظروف سياسية صعبة مع تضييق الأنظمة على قيادة منظمة التحرير وتوقف العمليات عبر الحدود مع فلسطين وبعد سنوات من اجتياح لبنان عام 1982 وترحيل القيادة الفلسطينية إلى تونس.
كما جاءت الانتفاضة كما الهبات الفلسطينية اللاحقة في وقت كادت فيه القضية الفلسطينية تسقط من الأجندة العربية، إذ غاب الملف الفلسطيني عن طاولة القمة العربية الطارئة في العاصمة الأردنية يوم الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني 1987 لصالح الحرب العراقية الإيرانية آنذاك.
وقبل كل ذلك، تعرض الفلسطينيون لضغوط وملاحقات الحكم العسكري الإسرائيلي على حياتهم اليومية، واستمرار تغول الاستيطان على أراضيهم.
وسائل المقاومة
وتميزت "الانتفاضة الأولى" بالمهرجانات الحاشدة والمسيرات الكبرى في تشييع الشهداء، واتخذت المسيرات طابع التحدي لا سيما عند خروجها في مناطق منع التجول، أو رفضًا لسياسات إغلاق المدارس والمعاهد، أو نصرة للأسرى مثل المسيرات التي نظمتها أمهاتهم.
وتحولت الأحداث التاريخية والدينية والمناسبات الوطنية إلى مناسبات للتجمهر والمسيرات الوطنية، واقترنت ساعة خروج الطلاب من المدارس بموعد لانطلاق مظاهرات ومسيرات تنتهي بمواجهات مع دوريات شرطة وجنود الاحتلال.
وصادف اندلاع "انتفاضة الحجارة" إعلان الشيخ الشهيد أحمد ياسين حينها عن تأسيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
وأصدرت حركة حماس بيانها الأول الذي عبّر عن مجمل سياساتها وتوجهاتها بتاريخ 14/12/1987 بعد 5 أيام من انطلاق انتفاضة الحجارة.
وتطورت وسائل المقاومة خلال الانتفاضة تدريجيًا من الإضرابات والمظاهرات ورمي الحجارة إلى الهجمات بالسكاكين والأسلحة النارية وقتْل العملاء وأسر وقتل الضباط والجنود الإسرائيليين والمستوطنين.
وردت قوات الاحتلال بعنف على الانتفاضة، فأغلقت الجامعات الفلسطينية وأبعدت مئات النشطاء ودمرت منازل الفلسطينيين.
وقد استهدف الاحتلال في اعتقالاته أعضاء حركة حماس، لا سيما مع تزايد حوادث قتل الجنود الإسرائيليين والعملاء الفلسطينيين، ومن بين المعتقلين كان الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي اعتقل في 18 مايو/أيار 1989.
إبعاد مرج الزهور
في محاولة للإفراج عن الشيخ أحمد ياسين خطفت الوحدة الخاصة من كتائب عز الدين القسام الضابط الإسرائيلي نسيم طوليدانو في 13 ديسمبر/كانون الأول 1992، وأصدرت بيانا سلمت الصليب الأحمر نسخة منه تطلب فيه الإفراج عن الشيخ أحمد ياسين في مدة أقصاها 10 ساعات، وهددت بإعدام الضابط المأسور.
رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت إسحاق رابين عملية تبادل الأسرى، ورد باعتقالات واسعة، وعند انتهاء المهلة قتلت الوحدة الخاصة الجندي، ووُجِدَت جثته على إحدى الطرقات، فردت الحكومة الإسرائيلية بشكل انتقامي، إذ اجتمع المجلس الوزاري الإسرائيلي وقرر اعتقال 418 ناشطا فلسطينيا من حركتي حماس والجهاد الإسلامي وإبعادهم إلى منطقة مرج الزهور اللبنانية الحدودية، في محاولة للقضاء على المقاومة والانتفاضة، والتخلص من العمليات التي استهدفت جنوده.
إلا أن المبعدين استطاعوا تنظيم أنفسهم ونصبوا خيامهم وأنشؤوا مخيم العودة، وانتخبوا هيئات ولجانا تدير أمور المخيم، ونظموا المسيرات إلى الحدود الفلسطينية، ولفتوا نظر الصحافة العالمية إلى قضيتهم، فتحول المخيم إلى قبلة لكل الإعلاميين والصحفيين المتعاطفين مع القضية الفلسطينية، إلى أن بدأت المفاوضات بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، وكان من شروطها عودة المبعدين، فبدأ المبعدون بالعودة بعد عام من إبعادهم.
وبرز الإضراب والعصيان المدني شكلا من أشكال الانتفاضة، وغالبا ما يكون حدادا على أرواح الشهداء، فكانت البيانات تحدد تاريخ الإضراب وتفاصيله، ومورست أنواع مختلفة من الإضراب، منها الإضراب الشامل ليوم أو أيام متعددة، والإضراب الجزئي، ويكون العمل فيه لعدة ساعات ثم تُغلق المحلات وتتوقف المؤسسات، والإضراب الخاص بمناطق معينة، فتضرب منطقة وتفتح أخرى لتسهيل أمور الحياة، بالإضافة إلى إضراب العمال، وإضراب المواصلات، وإضراب المدارس والجامعات وغيرها.
وتشير معطيات مؤسسة رعاية أسر الشهداء والأسرى إلى: استشهاد 1550 فلسطينيا خلال الانتفاضة، واعتقال 100-200 ألف فلسطيني خلال الانتفاضة، كما تشير معطيات مؤسسة الجريح الفلسطيني إلى أن عدد جرحى الانتفاضة يزيد عن 70 ألف جريح، يعاني نحو 40% منهم من اعاقات دائمة، و65% يعانون من شلل دماغي أو نصفي أو علوي أو شلل في أحد الأطراف، بما في ذلك بتر أو قطع لأطراف هامة.
كما كشفت احصائية أعدتها مؤسسة التضامن الدولي، أن 40 فلسطينيا استشهدوا خلال الانتفاضة داخل السجون ومراكز الاعتقال الاسرائيلية، بعد أن استخدم المحققون معهم أساليب التنكيل والتعذيب لانتزاع الاعترافات.
وبالرغم من الثمن الباهظ الذي دفعه الفلسطينيون في هذه الانتفاضة إلّا أنها شكّلت حالة فريدة في الاستنهاض الشعبي لمواجهة المحتل، وإعادة البوصلة نحو حقيقة الصراع مع المحتل، في ظل حالة من التوحد والتكاتف الشعبي غير المسبوق رغم تباينات المواقف واختلاف المشارب الفكرية.
لماذا كانت انتفاضة الحجارة مهمة؟
يرى محللون ومراقبون أن الانتفاضة الفلسطينية أعادت القضية الفلسطينية للواجهة بعد أن عملت قوات الاحتلال على مدار سنوات على تغييبها وإسقاطها من مختلف الأجندات، ضمن سياسة واضحة بمحاولة تدجين المجتمع الفلسطيني بالكامل وتحويله إلى مجتمع هشّ يقبل بالكيان الصهيوني.
يقول مدير مركز يبوس للبحوث سليمان بشارات إن الانتفاضة كانت "مرتكزا مهما في تاريخ الحالة النضالية الفلسطينية".
وذكر لذلك أسبابا، في مقدمتها أنه "لأول مرة منذ الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 يستطيع المجتمع التحرك بشكل جمعي جماهيري في وجه الاحتلال بعد محاولة ترويض الفلسطينيين وإجبارهم على قبول الأمر الواقع".
وأضاف بشارات أن الانتفاضة "دفعت جميع فئات المجتمع من مثقفين وعامة ونخب سياسية للانخراط فيها دون تمييز على أساس طبقي أو حزبي".
وتابع أن تلك الانتفاضة شكلت انطلاقة للعمل النضالي التنظيمي "فرغم أن فصائل منظمة التحرير الفلسطينية كانت قائمة قبل الانتفاضة فإن الانتفاضة شكلت فرصة للانطلاق على الأرض حتى تتحول الشعارات إلى عمل نضالي".
وقال بشارات إن انتفاضة 1987شكلت انطلاقة الحركات الإسلامية كحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وبالتالي ساهمت في إحداث حالة من المنافسة بين التنظيمات.
وفضلا عن ذلك، شكلت الانتفاضة "ذاكرة وطنية يمكن تناقلها بافتخار، واستطاعت أن تحدث فارقا على الأرض، وبالتالي استحضارها من باب التمجيد" حسب بشارات.
يقول الباحث والمختص في شئون الأسرى عبد الناصر فروانة، إنّ أبرز ما تميّزت به انتفاضة الحجارة هو متانة الوحدة الوطنية فيما بين كافة الفصائل، والتعاون والتنسيق الميداني فيما بينها وبين عناصرها بشكل فردي أو جماعي، تنظيمي أو شخصي، بالإضافة لتميزها بالطابع الشعبي والجماهيري الوحدوى وشموليتها، والأهم تميزها بوحدة النسيج الاجتماعي والعلاقات الأسرية والتعاضد والتكافل الأسري والاجتماعي وصلابة الحركة الأسيرة.
تأثيرها على الاحتلال
كسبت الانتفاضة الفلسطينية تعاطفًا دوليًا كبيرًا، فكانت الصور التي يلتقطها الصحفيون عن تنكيل الصهاينة بالفلسطينيين، تعطي صورة مختلفة للشعوب الغربية عن حقيقة الكيان الصهيوني.
من جهة أخرى، بدأت لأول مرة في كيان الاحتلال هجرة معاكسة، بسبب خوف المستوطنين من الاحتجاجات، وأصبح اليهود يفضلون الهجرة إلى الاتحاد السوفييتي بدلًا من الكيان.
كما انقسمت الأحزاب السياسية الصهيونية إلى أحزاب تدعو إلى العنف والشدة مثل "الليكود"، وأحزاب يسارية تدعو للتفاوض مع الفلسطينيين وعدم استعمال العنف ضدهم.
انتهت "انتفاضة الحجارة" عام 1993، مع توقيع اتفاقية "أوسلو" للسلام بين الاحتلال ومنظمة التحرير الفلسطينية، بعد أن راح ضحيتها حوالي 1262 شهيدًا بينهم، 241 طفلًا.